مناسبة القصيدة :
كان الأسود، أي كافور، قد تقدم إلى البوابين وأصحاب الأخبار، فكانوا كل يوم يرجفون بأنه قد ولاه موضعاً من الصعيد وغيره، وينفذ إليه قوماً يعرفونه ذلك، فلما كثر هذا وعلم أن أبا الطيب لا يثق بكلام يسمعه حمل إليه ستمائة دينار ذهباً، فقال هذه القصيدة يمدحه وأنشدها يوم الخميس لليلتين خلتا من شوال.
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ ** وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
أَما تَغلَطُ الأَيّامُ فيَّ بِأَن أَرى ** بَغيضاً تُنائي أَو حَبيباً تُقَرِّبُ
وَلِلَّهِ سَيري ما أَقَلَّ تَإِيَّةً ** عَشِيَّةَ شَرقِيَّ الحَدالَي وَغُرَّبُ
عَشِيَّةَ أَحفى الناسِ بي مَن جَفَوتُهُ ** وَأَهدى الطَريقَينِ الَّتي أَتَجَنَّبُ
وَكَم لِظَلامِ اللَيلِ عِندَكَ مِن يَدٍ ** تُخَبِّرُ أَنَّ المانَوِيَّةَ تَكذِبُ
وَقاكَ رَدى الأَعداءِ تَسري إِلَيهِمُ ** وَزارَكَ فيهِ ذو الدَلالِ المُحَجَّبُ
وَيَومٍ كَلَيلِ العاشِقينَ كَمَنتُهُ ** أُراقِبُ فيهِ الشَمسَ أَيّانَ تَغرُبُ
وَعَيني إِلى أُذنَي أَغَرَّ كَأَنَّهُ ** مِنَ اللَيلِ باقٍ بَينَ عَينَيهِ كَوكَبُ
لَهُ فَضلَةٌ عَن جِسمِهِ في إِهابِهِ ** تَجيءُ عَلى صَدرٍ رَحيبٍ وَتَذهَبُ
شَقَقتُ بِهِ الظَلماءَ أُدني عِنانَهُ ** فَيَطغى وَأُرخيهِ مِراراً فَيَلعَبُ
وَأَصرَعُ أَيَّ الوَحشِ قَفَّيتُهُ بِهِ ** وَأَنزِلُ عَنهُ مِثلَهُ حينَ أَركَبُ
وَما الخَيلُ إِلّا كَالصَديقِ قَليلَةٌ ** وَإِن كَثُرَت في عَينِ مَن لا يُجَرِّبُ
إِذا لَم تُشاهِد غَيرَ حُسنِ شِياتِها ** وَأَعضائِها فَالحُسنُ عَنكَ مُغَيَّبُ
لَحا اللَهُ ذي الدُنيا مُناخاً لِراكِبٍ ** فَكُلُّ بَعيدِ الهَمِّ فيها مُعَذَّبُ
أَلا لَيتَ شِعري هَل أَقولُ قَصيدَةً ** فَلا أَشتَكي فيها وَلا أَتَعَتَّبُ
وَبي ما يَذودُ الشِعرَ عَنّي أَقُلُّهُ ** وَلَكِنَّ قَلبي يا اِبنَةَ القَومِ قُلَّبُ
وَأَخلاقُ كافورٍ إِذا شِئتُ مَدحَهُ ** وَإِن لَم أَشَء تُملي عَلَيَّ وَأَكتُبُ
إِذا تَرَكَ الإِنسانُ أَهلاً وَرائَهُ ** وَيَمَّمَ كافوراً فَما يَتَغَرَّبُ
فَتىً يَملَأُ الأَفعالَ رَأياً وَحِكمَةً ** وَنادِرَةً أَحيانَ يَرضى وَيَغضَبُ
إِذا ضَرَبَت في الحَربِ بِالسَيفِ كَفُّهُ ** تَبَيَّنتَ أَنَّ السَيفَ بِالكَفِّ يَضرِبُ
تَزيدُ عَطاياهُ عَلى اللَبثِ كَثرَةً ** وَتَلبَثُ أَمواهُ السَحابِ فَتَنضَبُ
أَبا المِسكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ ** فَإِنّي أُغَنّي مُنذُ حينٍ وَتَشرَبُ
وَهَبتَ عَلى مِقدارِ كَفّى زَمانِنا ** وَنَفسي عَلى مِقدارِ كَفَّيكَ تَطلُبُ
إِذا لَم تَنُط بي ضَيعَةً أَو وِلايَةً ** فَجودُكَ يَكسوني وَشُغلُكَ يَسلُبُ
يُضاحِكُ في ذا العيدِ كُلٌّ حَبيبَهُ ** حِذائي وَأَبكي مَن أُحِبُّ وَأَندُبُ
أَحِنُّ إِلى أَهلي وَأَهوى لِقاءَهُم ** وَأَينَ مِنَ المُشتاقِ عَنقاءُ مُغرِبُ
فَإِن لَم يَكُن إِلّا أَبو المِسكِ أَو هُمُ ** فَإِنَّكَ أَحلى في فُؤادي وَأَعذَبُ
وَكُلُّ اِمرِئٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ ** وَكُلُّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيِّبُ
يُريدُ بِكَ الحُسّادُ ما اللَهُ دافِعٌ ** وَسُمرُ العَوالي وَالحَديدُ المُذَرَّبُ
وَدونَ الَّذي يَبغونَ ما لَو تَخَلَّصوا ** إِلى المَوتِ مِنهُ عِشتَ وَالطِفلُ أَشيَبُ
إِذا طَلَبوا جَدواكَ أَعطوا وَحُكِّموا ** وَإِن طَلَبوا الفَضلَ الَّذي فيكَ خُيِّبوا
وَلَو جازَ أَن يَحوُوا عُلاكَ وَهَبتَها ** وَلَكِن مِنَ الأَشياءِ ما لَيسَ يوهَبُ
وَأَظلَمُ أَهلِ الظُلمِ مَن باتَ حاسِداً ** لِمَن باتَ في نَعمائِهِ يَتَقَلَّبُ
وَأَنتَ الَّذي رَبَّيتَ ذا المُلكِ مُرضِعاً ** وَلَيسَ لَهُ أُمٌّ سِواكَ وَلا أَبُ
وَكُنتَ لَهُ لَيثَ العَرينِ لِشِبلِهِ ** وَما لَكَ إِلّا الهِندُوانِيَّ مِخلَبُ
لَقيتَ القَنا عَنهُ بِنَفسٍ كَريمَةٍ ** إِلى المَوتِ في الهَيجا مِنَ العارِ تَهرُبُ
وَقَد يَترَكُ النَفسَ الَّتي لا تَهابُهُ ** وَيَختَرِمُ النَفسَ الَّتي تَتَهَيَّبُ
وَما عَدِمَ اللاقوكَ بَأساً وَشِدَّةً ** وَلَكِنَّ مَن لاقَوا أَشَدُّ وَأَنجَبُ
ثَناهُم وَبَرقُ البيضِ في البيضِ صادِقٌ ** عَلَيهِم وَبَرقُ البَيضِ في البيضِ خُلَّبُ
سَلَلتَ سُيوفاً عَلَّمَت كُلَّ خاطِبٍ ** عَلى كُلِّ عودٍ كَيفَ يَدعو وَيَخطُبُ
وَيُغنيكَ عَمّا يَنسُبُ الناسُ أَنَّهُ ** إِلَيكَ تَناهى المَكرُماتُ وَتُنسَبُ
وَأَيُّ قَبيلٍ يَستَحِفُّكَ قَدرُهُ ** مَعَدُّ بنُ عَدنانَ فِداكَ وَيَعرُبُ
وَما طَرَبي لَمّا رَأَيتُكَ بِدعَةً ** لَقَد كُنتُ أَرجو أَن أَراكَ فَأَطرَبُ
وَتَعذِلُني فيكَ القَوافي وَهِمَّتي ** كَأَنّي بِمَدحٍ قَبلَ مَدحِكَ مُذنِبُ
وَلَكِنَّهُ طالَ الطَريقُ وَلَم أَزَل ** أُفَتَّشُ عَن هَذا الكَلامِ وَيُنهَبُ
فَشَرَّقَ حَتّى لَيسَ لِلشَرقِ مَشرِقٌ ** وَغَرَّبَ حَتّى لَيسَ لِلغَربِ مَغرِبُ
إِذا قُلتُهُ لَم يَمتَنِع مِن وُصولِهِ ** جِدارٌ مُعَلّى أَو خِباءٌ مُطَنَّبُ
المتنبى